..............................." الليلة الأخيرة".......................
قصة قصيرة عبدالله عبده
هرع الفلاحون في قرية " النخيل" إلى بيوتهم الطينية البسيطة بعد صلاة العشاء ، فقد أرخى الليل سدوله ، وألقى على قريتهم بمظلته السوداء في ليلة غاب فيها القمر ، وطمست أسراب السحب السوداء النجوم ، فتوحد الظلام الدامس مع : أزقة القرية الضيقة ، وشوارعها المتربة ، ومزارعها الداكنة ، وبيوتها الطينية السوداء ؛ التي تغطيها أعواد الحطب القاتمة ، وأقراص جافة من روث الحيوانات ؛ تستخدمها نساء القرية في طهي الطعام وصناعة الخبز في أفران منزلية ،ويطلقون عليها اسم " الجلة" ، فاكتملت كل عناصر الظلام ، فكان الليل الدامس هو السيد الأوحد بغير منازع ، ليصنع لنا في النهاية كتلة من السواد بظلمات بعضها فوق بعض ؛ يتحسس فيها المرء يديه فلا يكد يراها.
غير أن بيتين من بيوت القرية جمعا فريقين من الرجال لم يطرف النوم عيونهم ، فما كانت تلك الليلة الأخيرة إلا تتويجا لليال قبلها ، وجهدا محموما سبقها من كلا الفريقين المتخاصمين ، فحين تمتد أصابع الفجر ، فينبلج الصبح ، وتشرق الشمس، تبدأ الانتخابات لاختيار عمدة القرية ؛ وهي حادثة قلما تتكرر، فقد درجت العادة على أن تقوم وزارة الداخلية بتنصيب عمدة من اختيارها دون انتخابات ، على اعتبار أنها أدرى بمصلحة الناس أكثر منهم.
كان المرشح الأول " عباس البحطيطي" ينتمي إلى أسرة بسطت نفوذها بالقوة ، وأشاعت الخوف بين أهل القرية ، وتعالت عليهم حتى في إلقاء السلام ، ووجدت بعض من يناصرها من الناس إما خوفا أو نفاقا أو تزلفا أو طلبا لمنفعة او اتقاء لشرهم ، فكنت ترى أحدهم يقول:
--- ناجح إن شاء الله يا حاج عباس
وآخر ينشب أسنانه في دجاجة على مائدة عباس قائلا:
--- مبروك مقدما يا حاج عباس ، وهكذا .
وكان المرشح الثاني " صبري منصور" من أسرة بسبطة ، محببة إلى الناس ، ويناصره علنا كوكبة من شباب القرية ومثقفيها.
تبارى الفريقان بالطواف الأخير على بيوت القرية للإمساك بذيول اللحظة الأخيرة ، بغية اجتذاب أصوات الفلاحين ، يتوجس كل فريق الشر من الآخر ويستعد للصدام إن حدثت مواجهة ، وأخذ كل فريق ينقر على أبواب الفلاحين الخشبية حتى مطلع الفجر ، فكان كل فلاح يخرج إليهم بملابس نومه ، وعيون يملؤها النعاس ، وتبدأ عملية أخذ العهود والمواثيق ، ويقسم الفلاح لكل فريق برأس أمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه انه سيمنحه صوته لا محالة ،والفلاح بئر عميقة ، حفرتها مدرسة الحياة بعمق تاريخ الفراعنة ، ويخطيء من يظن أنه يستطيع أن يسبر أغوار نفس الفلاح ومتاهاتها ، فلا احد يستطيع أن يقرا شيئا من تعابير وجهه تساعده في معرفة ما يخفيه في بئره العميقة.
كان لعباس البحطيطي أخ ضئيل الجسم كثير الحركة ، لذا لقبه أهل القرية فيما بينهم " بفطوطة" وأثناء مروره على بيوت القرية أشار على رجلين من أصحابه أن يذهبا معه إلى"عزبة" تقع على أطراف القرية لدعوة رجالها القلائل لانتخاب أخيه.
ذهب ثلاثتهم إلى هذه العزبة قبيل الفجر بساعة ، فكان ليلها أشد سوادا، وبيوتها أكثر قبحا، وشوارعها أكثر التواء وضيقا ورعبا ، وأثناء سيرهم يتحسسون خطاهم شاهدوا شبحا يجلس على كومة ، فتقدم "فطوطة" نحوه قائلا:
--- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإذا به يسمع زمجرة مكتومة قذفت الرعب في قلبه ، تلقي بعدها رد السلام بقوله :
--- هو هو هو هو هو هو هو !!!!!
فر "فطوطة" من أمامه محاولا اللحاق برفيقيه اللذين سبقاه إلى الفرار ،لكن الكلب الشرس استطاع بقفزتين ؛ قطعهما في طرفة عين أن ينشب أنيابه في مؤخرة "فطوطة" وممزقا بمغالبه ملابسه من الخلف، فصرخ "فطوطة"صرخته الأخيرة في ليلته الأخيرة ، فما كان من صاحبيه إلا العودة لتخليصه ،وقاما برشق الكلب بالحجارة، وبفعل الظلام كان بعضها يصيب الكلب ، وبعضها الآخر يصيب صاحبهما، وبالكاد تم تخليصه،وسار " فطوطة" بينهما واضعا يديه على مؤخرته ، وتاركا رأسه تنزف بغزارة ، ثم قال:
---- الله يلعن الظروف التي جعلتنا نسلم على كل الناس
حتى الكلاب!!!!!
وكأن هجوم الكلب كان نذير شؤم على "عباس البحطيطي" ، فلقد أصبح الصباح ،وجرت الانتخابات ، وهزم عباس البحطيطي بهزيمة ساحقة ماحقة،ولم ينل حتى الأصوات التي كانت تنافقه ، وتأكل على مائدته ، وصار سخرية أهل القرية جميعا.