26 Jun
26Jun

.................. ( لا شيء يستحق ).......................

                        قصة قصيرة (عبدالله عبده)                   

  -- يا أستاذ أحمد ... التقرير الذي أمامي يقول: إنك تشكو من آلام في البطن، واضطرابات في النوم،وصداع حاد ومتكرر، وترفض تناول الطعام والدواء،  وهذه أعراض اكتئاب حاد ، بالإضافة إلى إصابتك بسرطان في المخ.

-- وماذا بيدك- أيها الطبيب- يستطيع انتشالي مما أنا فيه؟!

-- ما أنا إلا سبب ،والشافي هو الله ، وعلينا أن نتشبث بالأمل.

-- عن أي أمل تتحدث أيها الطبيب؟! لقد احترقت آمالي ، واستوطنتني الخيبة،وتمددت في أعماقي على بساط من اليأس.

-- الصمت بئر تتجمع فيه الأحزان،والحديث طوق نجاة للجفون القريحة،وللقلوب الجريحة، وللنفوس العليلة.

-- يا سيدي لقد كنت معلما للغة الإنجليزية ،يملؤني الحماس بغد مشرق،أحببت تلميذتي في الثانوية العامة، وتزوجتها، فكانت نعم الزوجة،وابتعثتني الوزارة لدولة خليجية،وأنجبت هناك طفلين وفتاة،وانتهت إعارتي،وبدأت في جمع حقائبي للعودة إلى مصر،وليتني فعلت ، غير أن بعض الأصدقاء النافذين رشحوني لوظيفة مترجم بالبنك المركزي لتلك الدولة ، وكانت فرحة عمري، وكلما اختزنت مالا ارتفع سقف طموحاتي وآمالي ،فاشتريت بمصر قصرا،وابتنيت برجا ، وفقدت السعادة في رحلة البحث عن المال  في الغربة ، فلا يعرف قيمة الوطن إلا من عرف الغربة ، وقساوة الغربة، تعيش الأعياد وحيدا يتيما ، مفارقا أهلك وذكرياتك وأصدقائك ،فيجتاحك الحزن،وتعتصرك الوحدة.

--- يا أستاذ أحمد ،كثيرون يغتربون،ثم يعودون إلى ممارسة حياتهم في أوطانهم بشكل طبيعي.

---إلا انا أيها الطبيب !! عدت لأستمتع بحياتي فاكتشفت أنها ضاعت في الغربة، لقد جمعت المال وفقدت العمر والصحة،   أخذتني الغربة شابا،ولفظتني كهلا انطفأ بريق عينيه، وغزت التجاعيد وجهه، ووهن عظمه،وشاب شعره،وليت الأمر توقف عند هذا الحد.

---هل هناك ما هو أكثر من ذلك؟ !

-- لقد راعني ما وجدت !! فلم يعد الناس هم الناس،فقد تغيرت الخرائط،وزحفت الكثبان الرملية، فتصحر العقل المصري،وانطمرت منظومة القيم، وصارت الثروة بيد الرعاع والسوقة واللصوص،وساءت السلوكيات ، وهبطت اللغة،   وتحجرت العواطف، وغلبت المصلحة ، وتفشت الرشوة، وهاجر أصحاب الثقافة والرأي مخافة جنون يصيبهم أو سجون تحتويهم.

  أتعلم -أيها الطبيب- أن بعض أقربائي دعاني إلى حفل زفاف بمدينتي القديمة فسافرت من القاهرة ،وفوجئت أن الحفل بمسرح مدرستي الثانوية،تلك المدرسة التي كانت قدس الأقداس لنا ، والأرض الخصبة التي أمدتنا بمنظومة الأخلاق والعلوم والفنون!! ذلك المسرح الذي شاهدت فيه عشرات المسرحيات لشكسبير وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس

  ها هو قد تحول إلى  ساحة للراقصات ، وللعبث الهابط الذي يسمونه فنا ، ولا أحد يستهجن ذلك!!عشت غريبا خارج وطني، وعدت غريبا داخله.

  بائس - أيها الطبيب - من اغترب لسنين طويلة ، فلا هو صار من  بلد الغربة ،ولا هو عاد إلى وطنه الذي يعرفه .

--- تكفيك أسرتك  حتى تتأقلم مع من حولك.

-- أسرتي !!لقد انقضت ستة أشهر،ثم توفيت زوجتي ،كانت تحمل عني عبء تربية أبنائي كاملا، حتى أتفرغ لعملي ،لم يطق الأبناء الإقامة معي بعدها ، فقد كانت تمثل لهم كل شيء ، فعادوا إلى البلد الذي كنت فيه ، فقد اكتسبوا جنسيته ، وبقيت في مصر ، أصحوا من نومي الممزق ،فأذهب لأقضي بقية اليوم أمام قبر زوجتي ،وسرعان ما أنشب السرطان مخالبه في رأسي، وها أنا أمامك على حافة الموت، وتحدثني

 عن التمسك بالأمل !!! أي أمل لمن فقد زوجته وأبناءه  وصحته؟!! لا شيء يستحق أن أحيا من أجله أيها الطبيب! !!!

لا شيء يستحق !! لا شيء يستحق !! لا شيء يستحق! !!!

                                     

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
تم عمل هذا الموقع بواسطة